فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



5- وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ؟ الْفَاحِشَةُ: الْفَعْلَةُ الشَّدِيدَةُ الْقُبْحِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ: الْكَبِيرَةُ، وَظُلْمُ النَّفْسِ: الصَّغِيرَةُ، وَلَعَلَّ الْفَاحِشَةَ مَا تَتَعَدَّى، وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَذِكْرُ اللهِ عِنْدَ الذَّنْبِ يَكُونُ بِتَذَكُّرِ نَهْيِهِ وَوَعِيدِهِ أَوْ عِقَابِهِ أَوْ تَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُمَا مَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ دُنْيَا لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنْدَ الذَّنْبِ النَّهْيَ وَالْعُقُوبَةَ فَيُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَمَرْتَبَةٌ عُلْيَا لِخَوَاصِّ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرُوا- إِذَا فَرَطَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ- ذَلِكَ الْمَقَامَ الْإِلَهِيَّ الْأَعْلَى الْمُنَزَّهَ عَنِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ كَمَالٍ، وَمَا يَجِبُ مِنْ طَلَبِ قُرْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّخَلُّقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْآمَالِ، فَإِذَا هُمْ تَذَكَّرُوا انْصَرَفَ عَنْهُمْ طَائِفُ الشَّيْطَانِ، وَوَجَدُوا نَفْسَ الرَّحْمَنِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ طَالِبِينَ مَغْفِرَتِهِ، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُلْتَزِمِينَ سُنَّتَهُ، وَارِدِينَ شِرْعَتَهُ، عَالِمِينَ أنه لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ يَضِلُّ مَنْ يَدْعُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَّا إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِسُنَنِهِ فِيهِ، وَالْحَاكِمُ بِسُلْطَانِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِإِفَادَةِ التَّنْوِيعِ، فَهَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ غَيْرُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ إِلَخْ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا عَلَى ذَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تعالى نَهَى عَنْهُ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِرُّ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مِنْ أَهْلِ الإيمان وَالتَّقْوَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الذُّنُوبَ فُسُوقٌ عَنْ نِظَامِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيمَةِ وَبُعْدٌ عَنْ مَقَامِ النِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ إِلَى قُرْبِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَخْضَعُ لِقَوَانِينِ الْحُكَّامِ الْوَضْعِيَّةِ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَمَنْ يَخْضَعُ لَهَا احْتِرَامًا لِلنِّظَامِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ تعالى:
كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ** وَيَرَوْنَ النَّجَاةَ حَظًّا جَزِيلَا

أَوْ لِأَنْ يَسْكُنُوا الْجِنَانَ فَيَحْظَوْا ** بِقُصُورٍ وَيَشْرَبُوا سَلْسَبِيلَا

لَيْسَ لِي فِي الْجَنَانِ وَالنَّارِ حَظٌّ ** أَنَا لَا أَبْتَغِي سِوَاكَ بَدِيلَا

فَالْآيَةُ هَادِيَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ لَا يُصِرُّونَ عَلَى ذَنْبٍ يَرْتَكِبُونَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ- عَزَّ وَجَلَّ- يَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ بِطَبِيعَتِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الإيمان وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ مُتَلَازِمَانِ، وَقَدْ قَالُوا إِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً، وَهَذَا أَقَلُّ مَا يُقَالُ فِيهَا، وَرُبَّ كَبِيرَةٍ أَصَابَهَا الْمُؤْمِنُ بِجَهَالَةٍ وَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا- فَكَانَتْ دَائِمًا مُذَكِّرَةً لَهُ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَسُلْطَانِ الْغَضَبِ أَوِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُوبُ مُقَاوَمَةِ هَذَا السُّلْطَانِ طَلَبًا لِلْكَمَالِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرَّحْمَنِ، خَيْرٌ مِنْ صَغِيرَةٍ يَقْتَرِفُهَا الْمَرْءُ مُسْتَهِينًا بِهَا مُصِرًّا عَلَيْهَا فَتَأْنَسُ نَفْسُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتَزُولُ مِنْهَا هَيْبَةُ الشَّرِيعَةِ، فَيَتَجَرَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَبَائِرِ فَيَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَرَأَيْتُ الْمُفَسِّرِينَ يُورِدُونَ هُنَا حَدِيثَ مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. وَمِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ يَرَاهُ فَيَغْتَرُّ بِهِ ظَانًّا أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ كَافٍ فِي التَّوْبَةِ وَمُنَافَاةِ الْإِصْرَارِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ كَالْمُفَسِّرِ لِلْآيَةِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكُلَّمَا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا حَرَّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَرُبَّمَا عَدَّ مِائَةً أَوْ أَكْثَرَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ فِي الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ لَا عَنْ كَوْنِ اللَّفْظِ كَفَّارَةً. عَلَى أنه لَا حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِهِ. وَرَاجِعْ بَحْثَ الِاسْتِغْفَارِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [3: 17] وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ فَهِمْتَ مَعْنَاهَا وَأَنَّهَا جَعَلَتْ كُلًّا مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِذِكْرِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- بِالْمَعْنَى بَيَّنَّاهُ لأهل الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ هَلْ تَجِدُكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ؟
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} يَعْنِيُ بِقوله: {أُولَئِكَ} الْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلْوَعْدِ وَتَفْصِيلُ مَا لِلْمَوْعُودِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ لِقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} إِلَخْ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ قِسْمٌ مُسْتَقِلٌّ وَأَنَّ الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، لَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [2: 25] فَلَا نُعِيدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فَهُوَ نَصٌّ فِي أَجْزَاءٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِحَالِ الْأُمَّةِ كَإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِصْلَاحٌ لِنَفْسِ الْعَامِلِ، وَكُلُّهَا مِمَّا يُرَقِّي النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ، حَتَّى تَكُونَ أَهْلًا لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، أَيْ وَنِعْمَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّاتِ أَجْرًا لِلْعَامِلِينَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ كَالْإِنْفَاقِ، وَالنَّفْسِيَّةَ كَعَدَمِ الْإِصْرَارِ، وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي التَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
مع بيان أوصاف المتقين في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر. وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع، لأن النعمة حين توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة، والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى الله ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء. إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر، أم كانوا في يسر.
إن كثيرًا من الناس ينسيهم اليسر أن الله أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم. وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلام الغير ويشغلوا بآلام أنفسهم. لكن المؤمنين لا ينسون ربهم أبدًا. وأمره بالإنفاق في العسر واليسر. ولذلك قولوا: فلأن لا يقبض يده في يوم العرس ولا في يوم الحبس.
وتتتابع أوصاف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه، وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات الشيطان، فهذه لا تخرجه من حظيرة التقوى، لأن الله جعل ذلك من أوصاف المتقين. فالفاحشة التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد لله بعدها، واستغفارهم مع الإصرار على عدم العودة، لا تخرجهم أبدًا عن وصفهم بأنهم متقون. لأن الحق هو الغفور: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله}.
إنهم قد أُخبروا بذلك، فلم يجرم الحق أحدًا إلا بنص، ولم يعاقب إلا بجريمة. وقول الحق سبحانه: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هو إشارة لكل ما سبق. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين: القوس الأول الذي ابتدأ به هو قوله الحق: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.
والقوس الثاني هو الذي أنهى الأمر: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.
فالجنة الأولى التي ذكرها الله إلهابًا للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة، وبعد ذلك ذكر الأوصاف والأصناف وجعل الجنة أجرًا.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
والأجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل. والأجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه. فزيادة الأجر ونقصه تقدير من صاحب العمل، وأيضا تقدير للعامل. فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملًا محددًا فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو يقبل أول عرض من الأجر نظير أداء العمل.
إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل، أو حاجة من عامل، وحين ننظر إلى الصفقة في الآخرة نجد أنها بين إله لا يحتاج إلى عملك. ومع أنه لا يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجرًا.
ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجًا إلى عملك، ويعطيك أجرًا على عملك ويقول لك: إن هذا الأجر هو الحد الأدنى، لكن لي أنا أن أضاعف هذا الأجر، ولي أن أتفضل عليك بما فوق الأجر. فكم مرحلة إذن؟ إنها ثلاث مراحل، مع أنه سبحانه لا يستفيد من هذا العمل إلا أنه وضع ثلاث مراتب للأجر.
إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد، أنت تحتاج إلى خالقك وهو لا يحتاج إليك، ومع ذلك يعطيك الإله الحق الأجر لا على قدر العمل فقط، ولكن فوق ذلك بكثير. إن الذي تعمل له يومًا من العباد قد يعطيك- على سبيل المثال- ما يكفيك قوت يوم، أو قوت يوم ونصف يوم. ولكنك حين تأخذ الأجر من يد الله فإنه يعطيك أجرًا لا تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
هذا هو الأجر الذي يقال فيه: نعم هذا الأجر؛ لأنه أجر لا يتناسب مع مجهودي، بل يفوق كل ما بذلت من جهد وقادم من جهة لا تحتاج إلى هذا المجهود.
إنه سبحانه متفضل على أولًا. ومتفضل على أخيرًا، ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك- أيها العبد- حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجرًا على ما فعلت.
وأوضحنا أن هذه الآيات جاءت بين آيات معركة أُحُد إرشادًا واستثمارا للأحداث التي وقعت في أُحُد، حتى إذا عاش الإنسان في تصور الأحداث فالأحداث تكون ساخنة، ويكون التقاط العبرة منها قريبًا إلى النفس؛ لأن واقعًا يُحتّمها ويؤكدها. والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلك: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (137):

قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل، والترهيب مما يوقع فيه، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد، فبدأ بالسبب الأقوى، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقًا وأقوى هممًا وأكثر عددًا وأحكم عددًا، فقال تعالى معللًا للأمر بالمسارعة إلى المغفرة: {قد خلت} ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلكم} اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم {سنن} أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين، وأحوال وطرائق كانت للفريقين، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد {فسيروا في الأرض} أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير، وتعتبروا من العين بالأثر، وتقرنوا بين النقل والنظر، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجبًا على الفور عقب بالفاء قوله: {فانظروا} أي نظر اعتبار، ونبه على عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين}. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية: وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
وجيء بـ {قد}، الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلًا لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالًا ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال: {قد خلت من قبلكم سنن}.
والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال الواحدي: أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه:
الأول: أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه، والسن الصب للماء، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد، والسنة فعلة بمعنى مفعول، وثانيها: أن تكون من: سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون، وثالثها: أن يكون من قولهم: سن الابل إذا أحسن الرعي، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وإدامته. اهـ.

.قال القرطبي:

هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسُّنَن جمع سُنَّة وهي الطريق المستقيم.
وفلان على السنة أي على طريق الاسْتِوَاء لا يَميل إلى شيء من الأَهْواء، قال الهذلِيّ:
فلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنت سِرْتَها ** فأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها

والسنة: الإمام المتّبع المؤتَمُّ به، يقال: سنّ فلانٌ سنة حسنة وسيئةً إذا عمل عملًا اقتُدِي به فيه من خيرٍ أو شر، قال لبيد:
مِن مَعشرٍ سَنَّت لهم آباؤهم ** ولكلِّ قومٍ سنةٌ وإمامُها

والسنة الأُمّة، والسنن الأُمَمُ؛ عن المفضل.
وأنشد:
ما عايَنَ الناسُ من فَضْلٍ كفضلِهم ** ولا رَأُوا مِثَلهم في سالِفِ السُّننِ

وقال الزجاج: والمعنى أهل سنن، فحذف المضاف.
وقال أبو زيد: أمثال.
عطاء: شرائع.
مجاهد: المعنى {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يعني بالهلاك فيمن كذّب قبلكم كعادِ وثمود.
والعاقبة: آخر الأمر، وهذا في يوم أُحد.
يقول فأنا أمهلهم وأمْلِي لهم وأستَدْرجهُم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين. اهـ.